كيف تفعل القوة الناعمة داخل الجامعات؟

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كيف تفعل القوة الناعمة داخل الجامعات؟, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 12:25 صباحاً

منذ أن صاغ جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة في مطلع تسعينات القرن الماضي، شهد هذا المفهوم سلسلة من التحولات المفاهيمية والوظيفية. ففي مرحلته التأسيسية الممتدة تقريبا بين عامي 1990 و2004، قدمت القوة الناعمة بوصفها مفهوما ينتمي إلى حقل العلاقات الدولية، وجرى تعريفها على أنها "القدرة على الحصول على ما تريد عبر الجذب لا الإكراه"، مستندة على ثلاثة مصادر رئيسة هي: الثقافة، والقيم السياسية، والسياسات الخارجية المشروعة. وقد عكس هذا الطرح في تلك المرحلة تصورا للقوة بوصفها نتاجا للعلاقات بين الدول، وهو ما يتسق مع طبيعة النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

غير أن ما بعد عام 2005 مثل نقطة تحول مهمة في مسار المفهوم، إذ انتقل من كونه إطارا تفسيريا في العلاقات الدولية إلى أداة سياسية عملية من خلال تصاعد الاهتمام بالدبلوماسية العامة. وتشير أبحاث (Jan Melissen) إلى أن هذا التحول أعاد تعريف الفاعلين في القوة الناعمة، حيث لم تعد الدولة وحدها هي المركز، بل أصبحت المؤسسات المجتمعية، وفي مقدمتها الجامعات، أطرافا فاعلة في تشكيل الصورة الذهنية للدول. وفي هذا السياق، برز الطلاب الدوليون بوصفهم وسطاء تأثير غير رسميين، ينقلون الانطباعات والقيم عبر التجربة لا عبر الخطاب السياسي.

ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، ولا سيما منذ عام 2013، دخل مفهوم القوة الناعمة مرحلة أكثر عمقا، تمثلت في النظر إلى التعليم الدولي والطلاب الدوليين بوصفهم أدوات استراتيجية مستدامة. وتدعم هذا التحول بيانات (UNESCO)، التي تشير إلى أن عدد الطلاب الدوليين عالميا تجاوز 6.4 ملايين طالب بحلول عام 2021، مقارنة بنحو مليونين طالب فقط عام 2000، ما يعكس تضاعف أهمية التعليم الدولي بوصفه مجالا للتأثير العابر للحدود، وليس مجرد تبادل أكاديمي محدود.

وفي الإطار نفسه، تؤكد تقارير (OECD) أن تجربة الطالب الدولي أصبحت عنصرا حاسما في بناء الانطباعات طويلة المدى، حيث ترتبط جودة التجربة التعليمية والاجتماعية بدرجة الرضا والانتماء ونية التوصية، وهي مؤشرات ثبت ارتباطها المباشر بالصورة الذهنية عن الجامعة والدولة المضيفة. وبذلك لم تعد القوة الناعمة ناتجة عن امتلاك الموارد الثقافية أو الرمزية فقط، بل عن كيفية إدارة التجربة التعليمية بوصفها عملية متكاملة.

ويمثل هذا التحول انتقالا جوهريا من منطق "الموارد" إلى منطق "العمليات". فلم يعد السؤال المركزي هو: ما الذي تمتلكه الجامعة أو الدولة من عناصر جاذبة؟ بل أصبح: كيف تنتج هذه الجاذبية؟ وكيف تدار؟ وكيف يمكن قياس أثرها؟ وهو ما يتوافق مع الاتجاهات الحديثة في قياس القوة الناعمة، التي تجاوزت المؤشرات الخطابية إلى مؤشرات الأداء والتجربة.

وفي هذا السياق، تواجه الجامعات - بما فيها الجامعات السعودية - تحديا أساسيا يتمثل في تحديد ميزاتها التنافسية الحقيقية. فوفق بيانات (QS)، تضم التصنيفات العالمية اليوم أكثر من 2000 جامعة مصنفة، الأمر الذي يجعل الاعتماد على الترتيب في التصنيفات وحده ميزة نسبية ضعيفة وقابلة للتقليد. وتشير أدبيات التعليم العالي إلى أن التصنيفات تعكس مستوى تنافسيا عاما، لكنها نادرا ما تكشف عن الميزة السياقية العميقة التي تشكل مصدر الجاذبية الفعلي للطلاب الدوليين.

ومن هنا يبرز السؤال الإشكالي حول الجهة القادرة على تحديد الميزة التنافسية: هل هي لجان الجودة؟ أم وحدات التخطيط الاستراتيجي؟ أم المؤشرات الدولية؟

تشير تقارير (ICEF) إلى أن الطالب الدولي يعد المصدر الأكثر موثوقية في تقييم الجاذبية المؤسسية، نظرا لكونه الفاعل الوحيد الذي يعيش التجربة كاملة ويقارنها بتجارب تعليمية في دول أخرى، ثم يعيد إنتاجها لاحقا في صورة سرديات وانطباعات تنتقل عبر الشبكات الاجتماعية والمهنية.

وفي الجامعات السعودية تبرز مجموعة من الموارد الناعمة النادرة التي تدعمها مؤشرات دولية متعددة، فقد أظهرت تقارير (Brand Finance) تحسن موقع المملكة في مؤشر القوة الناعمة العالمي خلال السنوات الأخيرة، وذلك من خلال العوامل الثقافية والاقتصادية. كما وأكدت ذلك نتائج الأبحاث التي أجريتها في أن الجامعات السعودية لديها موارد نوعية، تمثلت في الجاذبية المكانية الفريدة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، والجاذبية الاقتصادية المرتبطة بالتحولات التنموية، إضافة إلى القيم الإسلامية والعربية التي تقدم نموذجا ثقافيا مختلفا عن النموذج الغربي السائد، فضلا عن منظومة المنح والدعم الشامل للطلاب الدوليين.

غير أن التحدي الحقيقي، كما تشير تقارير (ICEF) و(OECD)، لا يكمن في وجود هذه الموارد، بل في محدودية تحويلها إلى سردية مؤسسية واضحة، وضعف دمجها في نماذج تشغيلية تربط بين التجربة الطلابية وآليات القوة الناعمة، إلى جانب القصور في استثمار هذه الميزات في التسويق والجذب الخارجي بصورة استراتيجية.

وخلاصة ذلك، فإن نجاح تفعيل القوة الناعمة داخل الجامعات كما يقول جوزيف ناي لمن "يمتلك القصة الأفضل!" ومنها تنتقل الجامعة والدولة من مجرد مقدم خدمة تعليمية إلى فاعل مؤثر في بناء النفوذ الناعم على المدى الطويل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق