نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ما بعد قيصر.. قراءة استراتيجية في تحولات المشهد السوري, اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025 03:58 صباحاً
يشكل إلغاء قانون قيصر تحولا استراتيجيا في مقاربة الملف السوري لا بوصفه قرارا تقنيا مرتبطا بالعقوبات فقط بل كاشف عن إعادة صياغة أشمل لأدوات التأثير الدولي في سوريا. وهذا التحول يعكس انتقالا مدروسا من سياسة الضغط الأقصى التي استنفدت أغراضها إلى مقاربة إدارة التوازنات عبر الاقتصاد والسياسة التدريجية. وفي هذا السياق لا يمكن فصل القرار عن المتغيرات البنيوية في الإقليم ولا عن إدراك متزايد لدى القوى الدولية بأن استمرار إدارة الأزمة السورية بالأدوات القديمة لم يعد يحقق الاستقرار ولا يخدم المصالح بعيدة المدى.
ومن الزاوية الاستراتيجية يكتسب قانون قيصر دلالته الأساسية من كونه صمم لاستهداف نظام الأسد السابق باعتباره منظومة حكم وأمن أدارت الصراع وارتبطت بعزلة دولية عميقة. والقانون لم يكن موجها ضد سوريا كدولة ولا ضد النظام السياسي القائم حاليا بقيادة الرئيس أحمد الشرع الذي تسلم بلدا منهكا واقتصادا مدمرا وإرثا ثقيلا من العقوبات صيغ لمرحلة سياسية مختلفة. والخلط بين النظامين أدى إلى تعطيل أي أفق لإعادة الاستقرار، وحول العقوبات من أداة ضغط سياسي محددة الهدف إلى عامل تفكيك اجتماعي واقتصادي واسع.
وخلال سنوات تطبيقه لعب قانون قيصر دور أداة خنق استراتيجي عبر عزل سوريا عن النظام المالي العالمي وتعطيل إعادة الإعمار، ومنع تدفق الاستثمارات حتى من الدوائر غير المعادية سياسيا. ورغم ذلك لم يحقق القانون هدفه المركزي المتمثل في دفع نظام الأسد السابق إلى تغيير سلوكه أو القبول بتسوية سياسية وفق الشروط الغربية. بل أنتج نتائج عكسية تمثلت في تعميق اقتصاد الظل وتوسيع شبكات التهريب وتعزيز الارتهان لمحاور غير غربية، مما افقد العقوبات فعاليتها الاستراتيجية مع مرور الوقت.
وإلغاء القانون في هذا التوقيت يعكس إدراكا دوليا بأن استمرار الضغط الاقتصادي الشامل لم يعد أداة قابلة للضبط، وأن كلفته الجيوسياسية باتت أعلى من مكاسبه. فالتدهور الاجتماعي العميق يحمل في طياته مخاطر انفجار داخلي أو موجات هجرة وفوضى عابرة للحدود. كما أن الانفتاح العربي المتدرج على دمشق وعودة سوريا إلى محيطها الإقليمي فرضا واقعا جديدا لم يعد من الممكن تجاهله ضمن الحسابات الأمريكية والغربية.
وفي قلب هذا التحول يبرز الدور الاستراتيجي الإيجابي للمملكة العربية السعودية التي قادت جهدا سياسيا ودبلوماسيا منظما لإعادة تعريف المقاربة تجاه سوريا. وهذا الجهد تم بقيادة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان الذي تعامل مع الملف السوري من منظور أمن واستقرار إقليمي طويل المدى. وفي هذا السياق جاء تحركه السياسي المباشر بطلب رفع العقوبات عن سوريا خلال تواصله مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتباره جزءا من مسار إعادة التوازن وليس تنازلا سياسيا. وهذا التحرك شكل نقطة ارتكاز أساسية في بلورة القرار وأظهر قدرة الرياض على تحويل ثقلها السياسي إلى نتائج ملموسة في القضايا الإقليمية المعقدة.
كما فتح داخليا إلغاء قانون قيصر نافذة استراتيجية محدودة لكنها مهمة أمام النظام السياسي الحالي. لأن التحدي لا يكمن في رفع القيود القانونية بحد ذاته بل في القدرة على تحويل هذا الهامش إلى مسار تعاف فعلي. نظرا لأن الاقتصاد السوري يعاني من اختلالات بنيوية عميقة ومن تآكل الثقة ومن غياب رؤوس الأموال المحلية قبل الخارجية. ومن دون إصلاحات مؤسسية وإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والسوق وبناء بيئة قانونية شفافة سيبقى أثر القرار محدودا وزمنيا.
كما يمثل إلغاء القانون سياسيا اختبارا لانتقال سوريا من موقع إدارة الأزمة إلى محاولة إدارة التحول. وهو فرصة لإعادة صياغة الشرعية على أساس تحسين شروط الحياة وبناء الاستقرار التدريجي. ولكنه في الوقت نفسه يحمل مخاطر الارتهان لمقاربات خارجية ناعمة قد تعيد إنتاج التبعية بأدوات مختلفة إذا لم يتم التعامل معها بوعي استراتيجي.
ويعزز القرار من الناحية الإقليمية مسار الانخراط العربي مع دمشق لأنه يمنح الدول العربية هامشا أوسع للمساهمة في إعادة الاستقرار دون الخشية من العقوبات الثانوية. غير أن هذا الدور يفرض مسؤولية حقيقية تتجاوز الرمزية السياسية نحو مشاريع تنموية واستثمارية قادرة على إعادة دمج سوريا في محيطها الاقتصادي.
ولهذا فإن إلغاء قانون قيصر ليس نهاية الصراع على سوريا بل انتقاله إلى مستوى أكثر تعقيدا ونعومة. لأن المرحلة المقبلة ستشهد تنافسا على النفوذ عبر الاقتصاد وإعادة الإعمار والسياسة التدريجية. وقدرة سوريا على عبور هذه المرحلة ستتوقف على مدى قدرتها على قراءة التحول الاستراتيجي بدقة وعلى توظيف الدعم العربي وفي مقدمته الدور السعودي ضمن رؤية سيادية واقعية بعيدة عن الأوهام وقصيرة عن الاستسلام.
alatif1969@

















0 تعليق