لماذا أصبحت حركة المدن قضية استراتيجية وليست مرورية؟

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لماذا أصبحت حركة المدن قضية استراتيجية وليست مرورية؟, اليوم الاثنين 22 ديسمبر 2025 07:30 صباحاً


لم تعد حركة المدن مسألة مرتبطة بازدحام لحظي أو طوابير ممتدة عند الإشارات، بل أصبحت مؤشرا دقيقا يكشف مستوى نضج المدينة، وعمق رؤيتها، وقدرتها على إدارة حاضرها وصياغة مستقبلها. وخلال العقد الأخير تغير السؤال من: كيف نخفف الزحام؟ إلى سؤال أكثر نضجا واستراتيجية: كيف نصنع مدينة تتحرك بذكاء؟ هذا التحول لم يكن طفرة عابرة، بل نتيجة تراكم طويل في العلوم الجيومكانية، وفي فهم السلوك الحضري، إضافة إلى تأثير رؤية المملكة 2030 التي جعلت جودة الحياة والكفاءة التشغيلية جزءا من هوية المدينة السعودية الحديثة.

وفي خضم هذا التحول، برز دور الهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية (GEOSA) باعتبارها الجهة التي تحمل على عاتقها بناء لغة المكان الوطنية التي تعتمد عليها الجهات الحكومية في اتخاذ قراراتها. فكل تحسين في حركة المدن، وكل رؤية حضرية دقيقة، وكل قرار يتعلق بالبنية التحتية، يبدأ من قاعدة بيانات مكانية موحدة وسيادية تشرف عليها GEOSA. ومن دون هذه البنية، تصبح المدن كمن يحاول قراءة مستقبلها بعين غير واضحة.

توضح التجارب العالمية أن الازدحام لم يعد شأنا مروريا، بل قضية وطنية تمس الإنتاجية والاستدامة وسلامة المجتمع. فقد استطاعت مدن تعاملت مع الحركة بوصفها ملفا استراتيجيا خفض الانبعاثات بنسبة 20%، ورفع إنتاجيتها بما يصل إلى 30%، وتحسين كفاءة البنية التحتية بنسب قاربت 40%، وهي نسب رصدتها منظمات مثل OECD وUN-Habitat وITU في تقاريرها. وما يجمع بين تلك الدول هو اعتمادها على بيانات مكانية صارمة، تماما كما تفعل GEOSA اليوم عبر بناء السجل الجيومكاني الوطني.

ويكشف كتاب الهندسة الجيومكانية لحركة المدن أن المدينة ليست شبكة طرق، بل كائن حضري يتحرك وفق إيقاع متكرر يكشف شخصيتها، ويعكس قرارات الماضي وتطلعات المستقبل. المدينة تفكر بطريقة معينة، حتى لو لم ننتبه لذلك؛ فهي تعيد إنتاج السلوك نفسه يوما بعد يوم ما لم يتغير السياق المكاني الذي تبنى عليه قرارات سكانها. ولا يمكن قراءة هذا العقل الحضري دون بيانات معيارية وموثوقة، وهو الدور الذي جعل GEOSA شريكا مباشرا في تشكيل الوعي الحضري للمدن السعودية.

في الماضي كان الحل الأقرب هو ردة الفعل: طريق يزدحم؟ نوسعه. إشارة تتعطل؟ نعيد برمجتها.

أما اليوم، فقد أصبح السؤال مختلفا: لماذا تختنق هذه النقطة بالتحديد؟ ما الذي يدفع الناس إلى اتخاذ السلوك نفسه؟ وأي قرار مكاني صامت أنتج هذا النمط؟

هذه الأسئلة لا تجيب عنها الهندسة المدنية وحدها، بل علوم المكان والتحليل الجيومكاني ونماذج الحركة. وهنا يظهر دور المعادلة الفكرية WQ التي تربط بين (البيانات × المكان × السلوك × القيم) = القرار.

ولا يمكن تطبيق هذه المعادلة دون قاعدة مكانية وطنية، أي دون GEOSA.

فالزحام ليس نتيجة مزاج بشري أو خيار فردي، بل نتيجة تصميم حضري يقود الجميع إلى المسار نفسه. إذا صممت المدينة بطريقة لا تمنح خيارات متعددة، فالمشهد المروري ليس خطأ الناس، بل نتيجة بنية لم تعد قادرة على مواكبة المتطلبات الجديدة.

ولكي تعاد قراءة هذه البنية، تحتاج المدينة إلى خرائط دقيقة لمسارات التدفق، وتحليل لطبقات استعمالات الأراضي، وبيانات جذور الرحلات، ومؤشرات الذروة الزمنية، وكلها تعتمد على البيانات التي توفرها GEOSA وتراقب جودتها بشكل مستمر.

ولا يمكن تجاهل أن حركة المدن أصبحت جزءا من الأمن الوطني. فسرعة الوصول للمستشفيات، ووقت الاستجابة للطوارئ، وقدرة الخدمات على الوصول إلى أطراف المدينة، ومرونة التنقل خلال الأزمات، كلها تعتمد على دقة البيانات الجيومكانية. ولذلك، أصبحت GEOSA لاعبا محوريا، لأنها الجهة التي تضمن أن تكون الخريطة الوطنية موحدة، دقيقة، وحديثة، ومتصلة بجميع الجهات.

وعند هذه النقطة يتضح أن إعادة تعريف حركة المدن كقضية استراتيجية هي المدخل الطبيعي لمدينة ذكية تتعلم، وتتكيف، وتعيد ضبط تدفقها الحضري باستمرار. والمهمة لا تكتمل إلا بالبنية التي تقودها GEOSA، والتي تمنح كل مدينة القدرة على رؤية نفسها بوضوح، ومعرفة أين تقف، وإلى أين يجب أن تتجه.

وفي المقال القادم: سلوك المدينة - كيف تفكر المدن أثناء الحركة؟ سننتقل لقراءة السلوك الحضري، وكيف تساعد المدن على كشف طريقة تفكيرها عبر حركة الناس والمركبات.

EngWalid67@

أخبار ذات صلة

0 تعليق