نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حضرموت والمهرة: التناقض البنيوي بين منطق السلاح وثقافة الدولة, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 11:18 مساءً
في حضرموت والمهرة لا يواجه تمدد المجلس الانتقالي الجنوبي بإشكال سياسي عابر يمكن تجاوزه بتفاهمات شكلية، إنما تكمن مركزية الرفض بعائق بنيوي عميق يتصل بطبيعة المجتمع المحلي ومنظومته القيمية والتاريخية. فهاتان المحافظتان لا تنظران إلى السلطة بوصفها غلبة مسلحة ولا إلى السياسة باعتبارها امتدادا للبندقية بل كوظيفة دولة ونظام وقانون. من هنا يبدأ مأزق المجلس الانتقالي الحقيقي.
أول مظاهر هذا المأزق يتمثل في غياب الحاضنة الاجتماعية الصلبة، فحضرموت والمهرة تمتلكان بنية اجتماعية وقبلية مختلفة جذريا عن بيئات عدن ولحج والضالع، حيث لا تنتج القوة المسلحة شرعية تلقائية، ولا تكافأ الهيمنة الخشنة بولاء اجتماعي. المجتمع هنا أكثر ميلا إلى السلم الأهلي وأكثر حساسية تجاه أي محاولة فرض نفوذ خارج التوافق المحلي. ولهذا فإن أي حضور سياسي لا ينبثق من الداخل الاجتماعي ولا يحترم توازناته ينظر إليه باعتباره اختراقا لا تمثيلا.
ويتعزز هذا الرفض البنيوي بسبب انعدام الشرعية التاريخية للمجلس الانتقالي في المحافظتين. فالمجلس لا يمتلك سردية تاريخية جامعة ولا ذاكرة نضالية مرتبطة بحضرموت أو المهرة يمكن البناء عليها لإنتاج قبول رمزي. على العكس ينظر إليه كفاعل وافد تشكل في سياق جغرافي وتاريخي مختلف، ويحاول إسقاط تجربته ورموزه على بيئة لم تكن جزءا من نشأته ولا من معاركه. ودون شرعية تاريخية أو رمزية يصبح أي حضور سياسي مجرد محاولة تمدد بلا جذور.
أما الإشكال الثالث فيكمن في تصادم الخطاب الانفصالي مع المزاج المحلي. فالمجتمع في حضرموت والمهرة يميل بطبيعته إلى الدولة والنظام حتى في لحظات ضعف الدولة نفسها. لا توجد حاضنة واسعة لمشاريع فصائلية أو شعارات تعبوية تقوم على القطيعة مع الإطار الوطني العام. بل إن مطلب الناس في جوهره يتمحور حول دولة عادلة وسلطة محلية قوية ضمن نظام وطني جامع، لا حول مشاريع هوية صدامية أو اصطفافات حادة. ومن هنا يبدو الخطاب الانفصالي غريبا عن المزاج العام بل ومقلقا له.
ويبلغ هذا التناقض ذروته عند نقطة الارتهان لشرعية القوة، فالمجلس الانتقالي بني أساسا كفاعل عسكري-أمني قبل أن يكون كيانا سياسيا مدنيا، وهو ما يضعف مصداقيته في بيئة ترى في السلاح خطرا على الاستقرار لا وسيلة لتحقيقه. في حضرموت والمهرة لا يكافأ السلاح بالشرعية بل يقابل بالتحفظ والريبة. وكلما استند الفاعل السياسي إلى القوة بدل التوافق تآكلت فرص قبوله حتى وإن رفع شعارات المشاركة أو الشراكة.
في المحصلة لا يواجه المجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة أزمة تكتيك أو سوء تواصل بل أزمة بنية وملاءمة. فبيئة تقدس النظام وتحترم الدولة وتتحسس من الهيمنة المسلحة، لا يمكن اختراقها بخطاب صدامي ولا بوجود أمني فوقي، ولذا سيظل قبول المجلس الانتقالي في هاتين المحافظتين قبولا مستحيلا.
إلا أن استمرار محاولات الاختراق هذه رغم استحالتها البنيوية، لا يمكن فهمها دون النظر إلى العامل الخارجي الذي يغذيها، حيث وفر للمجلس غطاء سياسيا وأمنيا مكنه من التمدد خارج سياقه الاجتماعي الطبيعي. غير أن انعكاسات هذا الدعم منذ البداية لم تتوقف عند حدود إعادة تشكيل التوازنات داخل الجنوب، بل أسهمت عمليا في تعطيل معركة استعادة الدولة اليمنية من ميليشيا الحوثي، عبر تشتيت الجهد الوطني وتحويل الصراع من مواجهة مشروع انقلابي طائفي إلى صراع داخلي على النفوذ والمناطق.
واليوم ومع انتقال هذا التمدد إلى حضرموت والمهرة لم يعد الأمر شأنا يمنيا داخليا فحسب، بل بات يمس الأمن القومي السعودي بصورة مباشرة. ففرض واقع أمني هش في محافظات متاخمة للحدود السعودية عبر قوى لا تخضع لمنطق الدولة ولا لسلسلة قيادة وطنية موحدة، يفتح المجال أمام فراغات أمنية خطرة، ويخلق بيئة قابلة للاختراق والابتزاز الاستراتيجي. وبهذا المعنى يتحول الدعم غير المنضبط للمجلس الانتقالي من ورقة نفوذ إقليمي إلى عامل إرباك للأمن الإقليمي، ويضع علامات استفهام جدية حول كلفة الاستمرار في هذا المسار على استقرار اليمن ودول الجوار.
لكن ما يجعل هذا المسار أكثر كلفة وأقل استدامة ليس فقط المعطيات الإقليمية بل تراكم الرفض الداخلي الذي يتصاعد مع كل محاولة تمدد جديدة، بوصفه عاملا ضاغطا لا يمكن القفز عليه أو تحييده بخطاب سياسي ناعم. فهذه البيئات تمتلك ذاكرة جماعية حذرة تجاه أي محاولات تمدد بالقوة. وقد أثبتت التجارب السابقة أن أي حضور لا يحظى بتوافق محلي حقيقي سرعان ما يستفز حراكا شعبيا مضادا يرى في ذلك التمدد تهديدا للسلم الأهلي ولمعادلة الاستقرار القائمة. ومع الزمن يتحول هذا الرفض من موقف اجتماعي صامت إلى فعل سياسي مباشر يعيد رسم حدود النفوذ ويفرض كلفته على من يتجاهله.
ويزداد هذا الرفض حدة حين يدرك المجتمع المحلي أن المعركة لا تدور حول شعارات سياسية مجردة بل حول السيطرة على موارده وثرواته، وبالتالي لا يمكن فصل البعد السياسي عن البعد الاقتصادي في هذا الصراع. فحضرموت تمتلك جزءا كبيرا من الثروة النفطية اليمنية، والمهرة تمثل بوابة بحرية استراتيجية على بحر العرب إلى جانب حضرموت. السيطرة على هاتين المحافظتين تعني السيطرة على موارد حيوية وممرات تجارية استراتيجية. لكن هذا الطموح الاقتصادي يصطدم بواقع أن المجتمع المحلي لن يقبل بتحويل ثرواته إلى ورقة مساومة لمشروع لا يمثله ولا ينبثق منه، فالرفض هنا ليس سياسيا فقط بل اقتصادي-وطني أيضا.
وهذا الرفض المزدوج يكشف عن تناقض أعمق بين ما يريده المجتمع الحضرمي تاريخيا وما يطرحه المجلس الانتقالي اليوم. والفارق الجوهري هنا أن المطلب الحضرمي التاريخي حين تبلور كان يتجه نحو صيغ حكم ذاتي ضمن الدولة اليمنية لا نحو انفصال كامل أو مشروع هوية صدامي. بينما المجلس الانتقالي يطرح نفسه كبديل عن الدولة لا كشريك فيها وهو ما يجعله غريبا حتى عن المزاج المحلي الساعي للاستقلالية الإدارية.
وإذا كانت هذه العوامل البنيوية والمجتمعية تشكل قيودا ثابتة على تمدد المجلس الانتقالي، فإن العامل الحاسم يبقى مرهونا بموقف الدولة نفسها في موازاة ذلك، يظل تغير سلوك الدولة عاملا حاسما في تحديد مصير أي تمدد غير شرعي. فالفارق كبير بين دولة تدير الأزمة من موقع الاحتواء والمساومة ودولة تقرر الانتقال إلى فرض السيادة وحماية احتكارها للقوة. وفي هذه اللحظة التي اتخذت فيها الشرعية قرارا واضحا بالخروج من منطق إدارة التوازنات الهشة إلى منطق بسط السلطة، هنا ينهار تلقائيا أي نفوذ قائم على الأمر الواقع أو الغطاء المؤقت.
وبموازاة هذا الموقف الصارم الماثل في حسم الدولة لموقفها، تتنامى تهديدات من داخل المجلس الانتقالي نفسه قد تكون أشد فتكا بمشروعه داخليا، لا يقل التهديد خطورة مع تصاعد احتمالات التفكك داخل المجلس الانتقالي نفسه. فالجناح العسكري الذي شكل العمود الفقري لنشأة المجلس ونفوذه ينظر إلى أي مسار قبول سلمي أو احتواء سياسي على أنه تراجع استراتيجي يمس جوهر القوة التي راكمها. هذا التباين بين منطق السلاح ومنطق السياسة يفتح شقوقا داخلية يصعب ترميمها، ويضعف قدرة المجلس على تقديم نفسه كفاعل موحد فضلا عن تقويض ثقته بنفسه قبل ثقة الآخرين به.
وإذا كانت هذه التناقضات الداخلية تهدد تماسك المجلس من الداخل، فإن التحولات الإقليمية تضيق عليه من الخارج، وعلى المستوى الأوسع تأتي التحولات الإقليمية لتضيف بعدا أكثر تعقيدا للمشهد. فالبيئة الإقليمية الجديدة باتت أقل تسامحا مع نماذج الميليشيا والكيانات المسلحة الخارجة عن إطار الدولة، وأكثر ميلا لدعم الاستقرار القائم على مؤسسات وطنية واضحة وقيادة شرعية متماسكة. ومع تصاعد كلفة الفوضى العابرة للحدود يتراجع هامش المناورة أمام أي فاعل لا ينسجم مع هذا الاتجاه. وفي هذا السياق يصبح التمسك بنموذج القوة غير المنضبطة عبئا سياسيا وأمنيا لا ورقة نفوذ، ويحول أصحابه إلى طرف في مواجهة مع الزمن الإقليمي لا مع خصومهم فقط.

















0 تعليق